غير مصنف

جميل الحجيلان، مئة عام من … الانفتاح!

تفيدنا قراءة السير الذاتية في معرفة المواقف التي وقعت خلال حياة الكاتب، سواءً كانت من لدنه أو من لدن المحيط الذي عاش فيه، أفراداً أو مؤسسات، مجتمعات أو دول.

يحدث هذا في أي سيرة ذاتية، فكيف إذا كانت هذه السيرة لرجل دولة من طراز رفيع ودبلوماسي مرموق، وخبير خاض غمار العمل الحكومي لأكثر من 70 عاماً، وما زال على الرغم من قربه من الـ 100 عام، يعطي من خبراته وحكمته لمن أراد إليها سبيلاً.

أكتب هذه الكلمات وأنا أقلّب بين يدي، بمنتهى الإمتاع والمؤانسة، مسودة مذكرات معالي الشيخ جميل الحجيلان، التي شرّفني بالاطلاع عليها وهي ما زالت “تتزيّن” استعداداً للخروج إلى الناس المتشوّقين لظهورها.

جميل الحجيلان مع الشاه محمد رضا بهلوي في طهران (أرشيف المجلة العربية)

لا أبالغ إذا قلت بأن السيرة الذاتية المرتقبة للشيخ جميل الحجيلان، ليست سيرة شخص ولا سيرة جيل، بل سيرة دولة [السعودية] عاصرها هذا الإنسان منذ تأسيسها على يد الملك الراحل عبد العزيز وحتى ما وصلت إليه اليوم على يد الملك سلمان. ماذا نتوقع من رجل عايش وتعامل مع سبعة ملوك غير أن يكون زاخر التجربة، ثريّ الذكريات والمواقف

حياة بطل مذكراتنا ليست 100 عام من العزلة، بل 100 عام من الانفتاح؛ الانفتاح على مجموعة متنوعة من الثقافات واللغات والمجتمعات والأيديولوجيات والسياسات، التي شكّلت بمصهورها شخصية جميل الحجيلان.

لن أُحرق عليكم متعة قراءة المذكرات عند صدورها قريباً، كما أتطلّع. لكني سأكشف عن تفاصيل موقف واحد، لا أدري إن كان يصح أن أسميه واحداً أو موحّداً، ذلك هو الموقف السعودي من الأطماع العراقية في الكويت.

قد يظن كثير من أبناء جيلي أن هذه الأطماع العراقية بدأت مع غزو صدام حسين للكويت عام 1990، وأن الموقف السعودي الصارم ضد العبث بأمن جارته كان قد ظهر حينذاك. بالطبع من السهولة البحث في محرك “غوغل” أو “ويكيبيديا” عن السوابق العراقية في هذا الشأن، لكنك قد لا تجد الآن الشخص الذي يروي لك الحكاية عن قرب، كما يفعل الحجيلان الذي كان أول سفير سعودي لدى الكويت، بل أول سفير ودبلوماسي يقدّم أوراق اعتماده لأمير الكويت بعد أن استقلت عن بريطانيا في 19 يونيو (حزيران) 1961. ولكن ما كادت الكويت وأهلها يكملون أفراحهم واحتفالاتهم بالاستقلال إلا وأعلن رئيس الحكومة العراقية عبد الكريم قاسم، في مؤتمر صحافي يوم 25 يونيو، “رفضه لاستقلال الكويت، باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من العراق”. واقتباساتي بين معكوفتين ستكون كلها من مسودة مذكرات الحجيلان.

جميل الحجيلان مع ابنه عماد (أرشيف المجلة العربية)

“كانت المملكة العربية السعودية أول دولة عربية أنكرت على الحكم في العراق هذا الادعاء الأخرق”، وقد عبّرتْ فوراً عن موقفها ببرقية أرسلها الملك سعود إلى الشيخ عبدالله السالم، جاء فيها بمنتهى الوضوح: “أما نحن فمعكم في السراء والضراء، وسوف نكون أوفياء في ما تعاهدنا عليه، ونحن على أتم الاستعداد لمواجهة كل خطر تتعرض له الكويت الشقيقة”. لم يتوقف الملك سعود عند هذه البرقية التطمينية لأمير الكويت، بل أرسل برقية في غاية الوضوح إلى الزعيم العراقي عبد الكريم قاسم جاء فيها: “وفضلاً عن أن الكويت بلد عربي نكنّ له نفس شعور المحبة والإخاء الذي نشعر به نحو البلاد العربية الأخرى، فإن في أعناقنا عهداً مقطوعاً للكويت في أن نهرع لنجدته إذا تعرض لأي خطر”.

ولم يكتفِ الملك سعود بتحذير الظالم وتطمين المظلوم، وهو السقف الأعلى المتوقع في التعبير عن الموقف السياسي والمزاج الدبلوماسي، بل عندما شعر بتراخي موقف زعيم عربي مؤثر في تلك الحقبة، وهو الرئيس المصري جمال عبد الناصر، من التهديد العراقي للكويت، أرسل إليه برقية واضحة على الرغم من العلاقة الوطيدة بينهما، أشار فيها إلى البيان الذي أصدره عن الحدث، وفيه: “يجب أن يكون معلوماً لدى الجميع أن الكويت والسعودية بلد واحد، وما يمس الكويت يمس السعودية، وما يمس السعودية يمس الكويت، وقد أحببت إحاطتكم علماً بذلك”.

وماذا بعد؟ هل من مزيد يمكن أن تفعله السعودية أبلغ من هذه التحركات الدبلوماسية والبيانات السعودية؟!

نعم، يوجد المزيد على البرقيات المتبادلة، التي قد تظن الأطراف المعنية أنها مجرد مجاملة دبلوماسية لرفع الحرج. يقول الحجيلان، “وتحسباً لأي عدوان عسكري مفاجئ من العراق على الكويت، بادر جلالة الملك سعود بإرسال وفد عسكري مكون من اللواء إبراهيم الطاسان والعقيد محمد الطيب التونسي والعقيد علي قباني للاجتماع بسمو أمير الكويت والبحث في ترتيبات قدوم القوات السعودية دفاعاً عن الكويت، وقد وصلت تلك القوات يوم 29 يونيو 1961 وأُرسلت إلى الحدود مع العراق بعد ثلاثة أيام من إعلان العراق رفضه استقلال الكويت”.

يتوقف الحجيلان هنا ليستذكر نفسه وسط تلك المعمعة التي انغمس بها وهو حينذاك ما زال في الثلاثينات من عمره فيقول، “لقد عايشت هذه الأزمة منذ بدايتها حتى نهايتها. فقد كنت عندما أعلنت الكويت استقلالها مديراً للمديرية العامة للإذاعة والصحافة والنشر في المملكة العربية السعودية”، وهي نواة لوزارة الإعلام السعودية التي تأسست لاحقاً في مارس (آذار) 1963 وعُيّن الحجيلان أول وزير لها. وفي خضم الأزمة، صدر الأمر الملكي بتعيين الحجيلان سفيراً للسعودية لدى الكويت. ويتابع الحجيلان، الذي أصبح بعد سنين سفيراً لدى فرنسا، استذكاراته قائلاً، “كيف كان لي أن أتنبأ بعد أن انتهيت من إذاعة التعليق في 20 يوليو (تموز) 1961، أنني سأعود بعد 30 عاماً لأجد نفسي في موقع من مواقع الصدارة، دفاعاً عن الكويت بالحديث والقلم، وأني سأعمل وأنا سفير لبلادي في باريس، على مدى سبعة شهور، متنقلاً بين وسائل الإعلام الفرنسية إذاعة وصحافة وتلفزيوناً، كي أندد بالعدوان الهمجي على الكويت”، وهو عدوان الزعيم العراقي صدام حسين عام 1990.

جميل الحجيلان (أرشيف المجلة العربية)

هل تتشوقون لمعرفة موقف غير سياسي وغير عسكري لتأكيد الوشائج العميقة بين السعودية والكويت؟ حسناً، يقول الحجيلان في موضع آخر من مسودة مذكراته، “استدعاني سمو الشيخ عبدالله السالم [أمير الكويت حينها] في أحد أيام شهر فبراير (شباط) 1962 وقال لي إن فريقاً من الفنيين التابعين لحكومة الكويت سيقوم بمسح استقصائي لمكامن المياه في الكويت، وقد يضطر هؤلاء الفنيون لتجاوز الحدود الكويتية – السعودية لعدة كيلومترات داخل المملكة، أرجو إخبار جلالة الملك سعود بذلك”. ويتابع “رفعت لجلالته برقية بهذا المعنى، فجاء الرد على النحو التالي: أخبروا سمو الأخ الشيخ عبدالله ترحيبنا بالفريق الفني في أي مكان في المملكة، حتى لو أراد البحث في مدينة الرياض عن الماء للكويت”.

ما بين موقف الملك سعود مع قاسم عام 1961 وموقف الملك فهد مع صدام عام 1991، تكمن خصلة الثبات في المواقف لدى السعودية، وهي خصلة صعبة المنال ونادرة التحقق في السياسة الدولية، وإن ادّعتها العديد من الدول في نشرات أخبارها.

وفي سيرة حياة الحجيلان المديدة والثرية، ستتعرف إلى مواقف السعودية في أكثر من موقع، ونحو العديد من القضايا التي ما زالت ساخنة، وما زال موقف الرياض منها الآن كموقفها في الستينيات وقبل ذلك التاريخ وبعده. الموقف من القضية الفلسطينية (المستدامة!)، الموقف من اليمن (غير السعيد)، الموقف من الولايات المتحدة الأميركية (بحزبيها)، وغيرها مما تزخر به مذكرات الحجيلان، الذي لم يعد، وقد قارب الـ 100 من عمره، يدفعه للإبانة عن هذه المواقف السعودية النبيلة، الطمعُ في منصب وظيفي أو في مال أو في جاه أكثر مما ناله ومما هو فيه الآن، بل يدفعه فقط إنصاف وطنه والإدلاء بشهادته للحق والتاريخ.

وبعد، فقد يكون هذا واحداً من أطول مقالاتي في حياتي، والسبب أني عشت قرابة 100 سنة في قراءة المذكرات، ولم أكتب لكم سوى عن سنتين منها فقط، فتخيلوا ما في تلك المذكرات من أشخاص وأحداث وقعت لرجلٍ واحد.

وختاماً، شاركوني فضلاً التشوّق والتشوّف لصدور السيرة الذاتية لمعالي الشيخ جميل الحجيلان، فقراءتها من المسودة تشبه تذوق الطعام وهو ما زال على النار!!

اليتيم الكبير

(١)

الأب هو عمود الخيمة التي يستظل تحتها الأبناء، فإذا سقــط العــمود وجب على الأبناء إعادة تصميم الخيمة، من دون عمود في وسطها، أو استبدالها بنوع آخر من المأوى.

يصدق هذا الوصف على كل الآباء، لكنه يصدق أكثر على أبي (عبدالله بن إدريس)،… أو هكذا يُخيّل إليّ!

(٢)

ظل أبي دوماً المتوازن في تديّنه من غير تطرّف أو تعنيف. والمتوازن في وطنيته من دون عنصرية أو استعلاء. والمتوازن في تكسّبه من غير كسلٍ أو جشع. والمتوازن في مصاريفه من دون تقتير أو تبذير.

(٣)

وظل أبي الشاعر، المتوازن في شعره من غير هجاء أو استجداء.

نشأتُ في بيت يقوده (شاعر) وهو أيضاً كاتب وصحافي وناقد أدبي. كان الحبر والورق يملأ بيتنا وسيارتنا وجماجمنا. وفي حين كان الناس يضعون الصحف بعد قراءتها مفارش لموائدهم، كان ذلك (الأب) يوقّر (الأحبار) وما كًتبت… والأوراق وما حوت. فنشأنا نعدّ الحبر والورق ثنائية ملازمة لنا كثنائية الليل والنهار.

(٤)

لأنه أبي فقط أحببناه، ولأنه ذلك الرجل المتوازن أُعجبنا به، وأَعجَبنا له هذا السيل من الدعوات والمشاعر التقديرية ومن ذاكريه في الصحف ووسائط التواصل، فهنيئاً له بهذا الحب والإعجاب والدعوات، وهنيئاً لنا به.

(٥)

لن أحدثكم الآن عن حياة أبي، فقد أفعل ذلك لاحقاً. سأحدثكم الآن عن وفاته.

اكتشفت أن المرض الذي يصيب الإنسان قبل وفاته له منفعتان: تخفيف الذنوب عن الميت، وتخفيف الحزن عن أهله.

لم تكن أيام مرض أبي القليلة كافية لتخفيف الحزن عني كثيراً، وما كان لها أن تنجح في فعل الكثير حتى لو طالت!

لكني أتخيل حالي لو أني استيقظت صباحاً ووجدته ميتاً على فراشه في بيتنا، أو لو جاءني خبر وفاته حين كنت خارج المملكة، كيف كانت ستكون فجيعتي؟!

لقد أكرمني الله الرحيم بأن تحدث الوفاة وأنا بجواره، وأن يكون ذلك بعد أيام (وإن قلّت) من تدهور صحته، فالحمدلله على رحمة الله.

(٦)

كنت أسمع خبر موت (الأب) لبعض المعارف والأصدقاء ولم أكن أتصور ضخامة الحدث حتى ذقتُه.

أشعر الآن بتقصيري، وأتمنى أن أعود لأصدقائي فأعزيهم من جديد عزاءً يليق بمصيبتهم.

(٧)

في التعريف المتداول أن اليتيم هو من مات أبوه عنه وهو صغير حتى يكبر.

وماذا عمن كان كبيراً في حياة أبيه ثم صغر لمّا مات أبوه، أليس هذا أشد يُتماً؟

أنا اليتيم بعد موت أبي: عبدالله بن إدريس.

نهاية «القوة الناعمة» !

ألِف الناس كثيراً استخدام مصطلح «القوة الناعمة» منذ أن صاغه جوزيف ناي عام ١٩٩٠، حتى إنهم من شدة ألفتهم معه أصبحوا يستخدمونه داخل بيوتهم، في المطابخ وفي غرف النوم!

بعد مرور ٣٠ عاماً على ولادة «القوة الناعمة Soft power» سيفاجأ الناس بولادة مفاهيم أخرى قد لا يسهل لهم التآلف معها، مثل: القوة الصلبة Hard power والقوة الحادة Sharp power، ليس لأنه لا يمكن توظيفها كما الأول، ولكن لأن توظيفها بغير دقة قد يورث عواقب وخيمة!

هذه المفاهيم الحديثة في الخطاب السياسي ليست مجرد عبارات إنشائية كما يتداولها الإعلاميون العرب في تعليقاتهم على سبيل التجمّل بها (!) بل هي عند الذين صاغوها أدوات جديدة للحروب ضد الدول المنافسة أو المستهدَفة.

وكما أن المختصين في العلوم العسكرية يدركون أنواع المعارك الحربية، فإن المختصين في العلوم السياسية والدبلوماسية يدركون أنواع المعارك السِّلمية التي هي خيار آخر عصري للحرب.

عند الخوض في هذه المفاهيم الدبلوماسية للقوة يهمني أن أشير إلى أن أستاذ الدبلوماسية العامة الدكتور سعود كاتب (وكيل وزارة الخارجية السعودية سابقاً) هو أحد أبرز منظّري هذا الحقل المعرفي في امتداد الوطن العربي. وقد كتب مجموعة تغريدات في تويتر تناول فيها المفاهيم الثلاثة، ثم غاص في التعريفات/‏ المناوشات بين باحثي الغرب (أمريكا خصوصاً) مع باحثي الشرق (الصين تحديداً) في تكييف التعريفات وفق تحيزات كلٍّ منهم لمعسكر القوة الذي ينتمي إليه.

ليس جديداً هذا التحيز الذي يقف ضده الدكتور كاتب بقوة، إذ تحيَّز الخطاب الغربي، خصوصاً، عند تعريفه «الإرهاب» وعند تسميته أعضاء «محور الشر».

المؤسسات الغربية، السياسية والإعلامية والعلمية، لا تنظر إلى تلك المحدِّدات «الوصميّة» بمعزل عن «مَنْ» توصف به، بل هي تختار من تشاء تصنيفه ثم تضعه تحت طائلة التعريف الموجَّه. ولا عجب أن تفعل ذلك فهي في حقيقة الأمر تمارس حرباً «ناعمة» أو حادة ضد أعدائها، وإن تلبّس فعلُها لباسَ الدبلوماسية الوديعة.

ولذا يختار الدكتور سعود أن يعرّف القوة الحادة بأنها «القوة الحادة في رأيي ليست قوة صلبة كما يرى ناي، وليست قوة غير ذكية كما ترى Xin، وليست مرتبطة بطبيعة النظام السياسي كما يرى Walker، بل هي قوة ناعمة غير أخلاقية في وسائلها وفي أهدافها، والنتائج المترتبة عليها وذلك بغض النظر عن طبيعة الدول التي تقوم بها».

ووفق تعريف الدكتور سعود فإنه يمكنني وصف ما يقوم به المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي أفيخاي أدرعي عبر التغريدات والمقاطع المتداولة في تويتر بأنه في حقيقته ليس قوة ناعمة كما يصفها كثيرٌ منا، بل هي قوة حادة لأنها تستخدم وسائل أخلاقية أو غير أخلاقية لتحقيق أهداف غير أخلاقية (خدمة الاحتلال). وبالمثل أيضاً ما عملته المكينة الإعلامية الأمريكية لتجريم العراق بهدف احتلاله لاحقاً في العام ٢٠٠٣. كما يجب علينا أن نعيد النظر فيما إذا كانت أعمال قناة الجزيرة، خصوصاً أيام (الربيع) العربي، قوة ناعمة أم حادة؟!

أما أوضح مثال على تحيز استخدام تلك المفاهيم، فهو الموقف من التحركات التي تقوم بها الصين في العديد من دول العالم لمواجهة كورونا، ففي حين يصف المعلق البريطاني سايمون تيسدال فايروس كوفيد 19 بأنه أصبح إحدى أدوات القوة الصينية الناعمة لتجاوز القوة العظمى المنافسة لها، يصف معلقون أمريكيون وغير أمريكيين، على أساس أن الصين هي المسؤولة عن انتشار الفايروس في العالم (!) بأن ما تقدمه من مساعدات الآن هو ليس قوة ناعمة بل قوة حادة، بينما يراها آخرون قوة صلبة باعتبارها حرباً جرثومية سافرة!

في تغريدات الدكتور سعود الثرية (متوفرة على تويتر) نماذج متنوعة لأحابيل التحيز في الخطاب الغربي في هذا الحقل خصوصاً، وهو ينبه إلى ضرورة إدراك الأكاديميا العربية لمفاهيم القوة الناعمة والحادة وتطبيقاتهما.

وأنا أثنّي على طلبه، بأن هذا الإدراك المطلوب يجب أن ينعكس أيضاً على الحواضن الدبلوماسية السعودية وكوادرها التي يجب أن تتدرب جيداً لصد الحروب الدبلوماسية الشرسة، في أثوابها الجديدة!

وأتساءل، وبلادنا العزيزة مستهدفة كثيراً بهذه السهام «الناعمة» من الخارج: هل لدى الدبلوماسي السعودي والإعلامي السعودي الجاهزية لخوض هذه الحروب التي تسيل فيها «دماء بيضاء» قد لا يُفطن لها حتى يكتمل النزيف القاتل ؟!

 

سيرة عنيزاوي 

حين وصلني كتاب الدكتور عبدالعزيز العلي النعيم: (حكايتي بعد التسعين)، كان أول ما لفتني فيه طوله الذي قارب 400 صفحة. أما ثاني ما لفتني فهو طول بالي على قراءته، رغم نفوري المعتاد من قراءة الكتب المطوّلة! 
لماذا استسلمت للقراءة بكل رضى؟! 
لأننا اعتدنا أن تكون زيجات أهل عنيزة دوماً مكتظة بالمدعوين، وأن تكون جنائزهم أيضاً مكتظة بالمعزّين. ولذا فلا بد أن تكون السيرة الذاتية لشخصية عنيزاوية مكتظة بالصفحات والشخصيات والأحداث، وهذا بالفعل ما كانت عليه سيرة النعيم. 
قد لا يرى النقاد في هذه السيرة عملاً أدبياً أو سرداً فنياً، بالمعايير النقدية التي اصطلحوا عليها. لكنّ الذي لا ننتظر رأي النقاد فيه هو اكتناز الكتاب على تجارب حياتية ثرية ومتنوعة، كُتبت بأسلوب حكواتي بسيط ومطعّم بالسخرية والعفوية، كأنه لم يكتبه بل قاله قولاً، وكأني لم أقرأه بل سمعته منه ونحن متجاوران على مركاة في مجلسٍ عربي. 
يصف الكاتب أحد أصدقائه بأنه صادق ونشمي وخدوم “حتى إنني كنت شاهداً في يوم ما على شهامته عندما كنا ندرس في القاهرة. كان يوم إجازة وذهبنا إلى القناطر الخيرية، كانت هناك بعض الجسور الخشبية فوق ممرات مائية. وبينما كانت مجموعة من الفتيات يعبرن أحد الجسور إذ تحطم الجسر وسقطت البنات في الماء. فقام عقلا بتصرف عفوي بقذف نفسه في الماء وإنقاذ الفتيات” كان شهماً! 
بمثل هذا التلميح المملوح يسرد د. النعيم كثيراً من المواقف والتجارب التي عاشها، في طفولته بعنيزة، وفي دراسته بالقاهرة، وفي وظيفته بالرياض. سيرة “إرشادية” مليئة بالمعاناة والطموح والكفاح والأفراح والأحزان. وينتظم كل هذه الأحداث بمختلف أنواعها خيط قِيَمي متين هو: الوفاء. ولو ذيّل النعيم كتابه هذا ب(فهرست أعلام) لرأيت فيه خَلْقاً متفاوتين من أقارب وعمّال وأصدقاء وفرّاشين ووزراء وخدم وبرلمانيين وجزّارين وأكاديميين وكدّادين. وهذا أمرٌ لا تقدر عليه إلا نفوس النبلاء. 
لا يكرّس د. النعيم سيرته للحديث عن نجاحاته فقط، بل أيضاً عن إخفاقاته وأخطائه. إذ بعد أن شارك في شبابه بالتوقيع على خطاب تحريضي فأُوقف عن العمل لمدة مؤقتة يقدّم نصيحة ثمينة للقراء: “لا تسلّموا عقولكم لأحدٍ ما. لقد فقد الكثير من الناس مستقبلهم بسبب انجرارهم وراء قضايا ليست قضاياهم، وتدخلوا في ما لا يعنيهم، وبدلاً من أن يهتموا بأنفسهم وأسرهم ومستقبلهم ورفع مستوى حياتهم اهتموا بما لا ناقة لهم فيه ولا جمل، وراحوا ضحية مطامع الآخرين”. 
لم تزدني سيرة د. عبدالعزيز النعيم، أو قبل ذلك السيرة اللذيذة أيضاً لشقيقه معالي الأمين عبدالله النعيم “بتوقيعي .. حكايات من بقايا السيرة”، إلا قناعةً بأن أهل عنيزة نسيج وحدهم في الموائمة بين الدين والدنيا، ومزيج متجانس في حياتهم بين الاستمتاع بالرغبات لنفوسهم الشفافة، وأداء الواجبات لدينهم ووطنهم ومجتمعهم. وكنت دوماً أقول، وأكرر الآن، أن نمط “الشخصية العنيزاوية” هو أقرب نموذج لإنسان المدينة الفاضلة التي ننشدها للتعايش بين التيارين الديني والليبرالي في العالم العربي بأسره. 
ليس شرطــاً أن تقــرأوا سيــرة د. النعيم أو أن يكون لكم علاقة شخصية مع إحدى أسر عنيزة كي تصلوا إلى هذه القناعة، ألا تعرفون: حمد القاضي وعبدالله الشبل وعثمان الخويطر وأحمد الصالح “مسافر” وإبراهيم التركي وعبدالرحمن الشبيلي ومحمد الشامخ رحمهما الله، ونماذج عنيزاوية أخرى عديدة من (دعاة السلام). 
عذراً، فقد خرج المقال عن مساره، فأصبح عن سيرة أهالي عنيزة كلهم، وليس عن سيرة عبدالعزيز النعيم وحده! 
سأحاول إعادة المقال في ختامه إلى مساره الأصلي فأخبركم بأن أطرف قصص الكتاب هي عن الحمار الذي لقي حتفه من أجل السامري، وسأترككم تبحثون عن القصة بطريقتكم الخاصة (عرض تشويقي/ تسويقي)! 
قصة الحمار وسامري عنيزة تشترك مع قصة العجل وسامري بني إسرائيل في النزوع إلى المنفعة الذاتية والتغرير بالآخرين … وسلامتكم!

(بارود) المكان 

قراءة الرواية متعة، 
ولكنها تكون أكثر متعة حين تقرأها وأنت في مسرح أحداثها. 
تقارن وصف الراوي للمنزل المهجور أمامك برؤيتك أنت، وتتفحص وجوه المارة لتتأكد إن كانوا هم أبناء أو أحفاد بطل القصة، وتطالع الطقس في مكانك لتتعرف في أي فصول السنة كُتبت الرواية؟ 
تغادر المكان بعد أن تشعر بأنك قد شاركت في كتابة الرواية، لا قرائتها فقط! 
قرأت (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس، وأنا جالس في أحد مقاهي أزقة الحي في باريس. 
مارست نظرية «موت المؤلف» كي أتمكن من إحياء مؤلِّف آخر لها، ابتُعث إلى باريس للدراسة، تخرّج في السوربون منذ الثمانينات لكنه لم يتخرج من الحي اللاتيني حتى الآن! 
وفي حي هارلم بنيويورك قرأت الخاتمة الحزينة لسيرة (مالكوم إكس) لأليكس هاليي. كنت بجوار القاعة التي قُتل فيها وهو يخطب. فكرت بالدخول لأسأل الجلوس: هل وجدوا القاتل، الذي ما زالت المباحث الفيدرالية الأمريكية تبحث عنه حتى اليوم!! 
قرأت (الحزام) لأحمد أبو دهمان‬ «مجدداً»، قبل أسبوعين وأنا بجوار قريته آل خلف بمنطقة عسير. 
وكدت أبشّر البيوت الملوّنة وأدوات الختان بأن أبو نبيلة قد عاد من هجرته في فرنسا، ولكنه دخل في هجرة جديدة مع ذاته! 
وقرأت قريباً من القرية ذاتها أيضاً، سيرة (بارود) لمعدّي آل مذهب. وشممت رائحة «بارود» مقاومة رجال القرية للغزاة العثمانيين في كل زاوية من زوايا القرية .. الآيلة للبقاء! 
قد يقول البعض: أليس كثيراً كتابة سيرتين عن قرية واحدة صغيرة؟! 
ولو زار المتسائل قرية آل خلف «المُتحفيّة» بأبراجها وممراتها وحقولها وألوانها، لوبّخ بقية أبناء القرية أن كيف لم يكتبوا رواياتهم بعد! 
«ليس هناك شبر في القرية إلا وله اسم، جميع الأماكن والجدران والأشجار والطرقات والمنازل والحقول والأبراج لها أسماء… حتى بعض الأشجار العملاقة لأغصانها الكبيرة أسماء». «هكذا بارود، خُلق مقاتلاً. رائحة البارود تسعده أكثر من رائحة العطر». طلبت المدرسة من الطلاب التبرع بما يسمى ريال فلسطين، لم يتبرع إلا قلة بسبب ضيق ذات اليد «أحد الطلاب أخبر المدير أمامنا جميعاً في طابور الصباح بأن والده يقرئه السلام ويخبره أن يأخذه إلى فلسطين بدلاً من الريال». (اقتباسات من رواية بارود). 
لم يكن أحمد هو الفنان، ولا معدّي، بل القرية هي الفنان. وأحمد ومعدّي تفنّنوا في كتابة ما أملته عليهم قرية آل خلف.

حروب الهويات الرياضية 

هوية الإنسان، رغم كونها أمرا أساسيا في تعريف الشخص ومعرفة: من (هو)، إلا أنها ليست أمراً جامداً، لا يتبدل أو يتحول، ويكبر أو يصغر، ويستوحش أو يستأنس!

وقد تناولت في كتابي: «حروب الهويات الصغرى» الصراع الدائم بين البشر بسبب هوياتهم المتناحرة. لكني كنت أقتصر في كلامي على الهويات الدينية والعرقية والثقافية، ولم يخطر في بالي حينذاك تناول الهويات الرياضية بوصفها ميداناً محتملاً لتحول الهويات أو تفككها أو الصراع الداخلي بينها!

تنبهت لهذا الملمح بعد تصاعد مستوى نادي الفيصلي ببلدة حرمة (موطن آبائي)، منذ صعوده إلى دوري المحترفين السعودي لكرة القدم قبل سنوات، بجوار أندية المدن الكبرى، وحتى ارتقائه إلى أعلى منصات التتويج الرياضي بحصوله على كأس الملك، الخميس الماضي. هذه الانتفاضة الفيصلاوية هزت انتماءات سكان المدن من أبناء بلدة الآباء والأجداد، وحيّرتهم في انحيازاتهم بين النادي المديني الذي ألفوا تشجيعه والنادي الريفي الذي استعادوا الحنين والحميّة له.

مساء الأحد، كنت أمام حالة دراماتيكية أثناء مشاهدة مباراة الفيصلي والهلال مع عدد من أبناء العم (وهم هلاليون). كانت الحيرة تأكل عواطفهم ذات «مرمى» اليمين وذات «مرمى» الشمال، فإذا جاء هدف للهلال صفقوا، وإذا جاء هدف للفيصلي صفقوا.

كانوا كأنهم «مع من غلب»!

الجماهير القريبة من الأندية الريفية التي ترتقي وتبدأ في منافسة الكبار تكون قادرة أكثر على حسم موقفها، عبر الاكتفاء بتشجيع نادي بلدتها.

مثال: فهد المدلج رئيس نادي الفيصلي، كان معروفا أنه من مشجعي نادي النصر، لكنه بعد صعود الفيصلي لمصاف المحترفين استطاع النادي الناهض أن يقضم قطعة كبيرة من كعكة تعاطفه وميوله الرياضية.

الآن، بعد أن أصبح الفيصلي بطلا يمكن القول، إن الهوية الرياضية لفهد أصبحت محسومة ومسخّرة كلها للفيصلي، ولا أحد غيره.

لكن لو انتكس نادي البلدة هل تعود جذوة تشجيع النصر للاشتعال عنده؟! ربما.

هذا التحول الهويّاتي قد لا يحدث عند مشجعي المدن الذين ينحازون «نوستالجيا» لأندية بلداتهم الريفية، لكنهم لا يتخلون عن الانحياز إلى هويتهم الرياضية الأولى، إذ يستمرون في المراوحة بين ناديين: مديني وريفي. أي القدرة على استبطان هوية كبرى وهوية صغرى في آن. هل يمكن أن تحدث هذه الازدواجية الانحيازية في الهويات الدينية والسياسية والاجتماعية ؟ هذا ما يحتاج إلى تأمل أوسع، مستحضرين مفاهيم: التسامح الديني، الخيانة العظمى، النقاء العرقي!

في جانب آخر، لكن ليس عن صراع الهويات بل عن تصالحها، أثار انتباه العديد من المتابعين لحفل تتويج الفيصلي بكأس خادم الحرمين الشريفين أن كابتن الفريق الذي استلم الكأس من راعي المباراة ثم دخل المدينة حاملا الكأس أمام وجهاء وأعيان حَرْمَة الذين كانوا في استقبال الفريق بمقر النادي، لم يكن من أهالي حرمة ولا من أبناء منطقة سدير، بل كان من أبناء القطيف!

لم تحجب الهوية الطائفية اللاعب أحمد الكسار من أن يكون قائدا لفريق أحد أندية وسط نجد المعروفة تاريخيا بتمسكها بهوياتها الدينية، الكبرى والصغرى. بل وبقيادتها حروب هذه الهويات، والدفاع عنها أمام الهويات المغايرة.

هل استطاعت الرياضة أن تبني جسرا حواريا لم تستطع مؤسسات الحوار الوطني أن تتجاوز عقبات بنائه؟!

الفيصلي .. محاولة أخرى

في شهر أبريل 2018 نشرت في صحيفة الحياة مقالاً عنوانه: “تفاصيل الفيصلي”، وقد كان بمناسبة وصول نادي الفيصلي بمدينة “حرمة” (بلدة آبائي وأجدادي) إلى نهائي كأس خادم الحرمين الشريفين، التي خسرها أمام نادي الاتحاد.

أستعيد اليوم هذه الاقتباسات، أدناه، من مقالتي تلك بمناسبة وصول الفيصلي مرة أخرى إلى نهائي كأس الملك اليوم أمام نادي التعاون.

“زرت وبعض الأصدقاء مقر النادي في محاولة للتعرف عن قرب على سوسيولوجيا النجاح المبهر للنادي الفيصلي بحرمة، الذي استطاع رغم محدودية إمكانياته وأعضاء شرفه وجماهيره، الصعود إلى دوري المحترفين مع الأندية الكبار، ولم يكن هذا مصادفة أو “بيضة ديك” كما يقال، فقد استمر الفيصلي محافظاً على مقعده في دوري المحترفين منذ صعوده قبل 11 سنة حتى اليوم.

بل إنه في كثير من المواسم الماضية لم يكن مهدداً بالهبوط، بل محافظاً على موقعه في مراكز الوسط، وكان لا يتردد في هزيمة الأندية الأوائل بين حين وآخر فيغيّر ترتيب الكبار بيده الصغيرة!.

الجهاز الإداري للنادي المكوّن من مجموعة من الشباب يقودهم الرئيس فهد المدلج، التأم جمعهم منذ بداية الصعود الملفت لاسم النادي، منذ عقد من الزمن، واستمر هذا الفريق الإداري يعمل حتى اليوم بروح (الفريق)، فهم يديرون النادي مثلما يديرون بيوتهم بانتماء وإخلاص وتحنان.

قدّم النادي الفيصلي، بموارده المالية المحدودة مقارنةً بالميزانيات الضخمة للفرق الكبار، أنموذجاً فريداً وبرهاناً جديداً أن العبرة بالأموال ليس في كثرتها بل في حسن صرفها وإدارتها.

بغضّ النظر عما ستؤول إليه نتيجة المباراة النهائية على الكأس، فإنه يكفي الفيصلي شرفاً أنه اخترق صفوف (الأكابر) حتى وضع نفسه في رأس المجلس باستحقاق.

وختاماً، فإن النجاح يكمن في التفاصيل، والفشل يكمن في تفاصيل التفاصيل!

تمنياتنا لممثل سدير بالفوز والتتويج بكأس المليك المفدى.