سيرة عنيزاوي 

حين وصلني كتاب الدكتور عبدالعزيز العلي النعيم: (حكايتي بعد التسعين)، كان أول ما لفتني فيه طوله الذي قارب 400 صفحة. أما ثاني ما لفتني فهو طول بالي على قراءته، رغم نفوري المعتاد من قراءة الكتب المطوّلة! 
لماذا استسلمت للقراءة بكل رضى؟! 
لأننا اعتدنا أن تكون زيجات أهل عنيزة دوماً مكتظة بالمدعوين، وأن تكون جنائزهم أيضاً مكتظة بالمعزّين. ولذا فلا بد أن تكون السيرة الذاتية لشخصية عنيزاوية مكتظة بالصفحات والشخصيات والأحداث، وهذا بالفعل ما كانت عليه سيرة النعيم. 
قد لا يرى النقاد في هذه السيرة عملاً أدبياً أو سرداً فنياً، بالمعايير النقدية التي اصطلحوا عليها. لكنّ الذي لا ننتظر رأي النقاد فيه هو اكتناز الكتاب على تجارب حياتية ثرية ومتنوعة، كُتبت بأسلوب حكواتي بسيط ومطعّم بالسخرية والعفوية، كأنه لم يكتبه بل قاله قولاً، وكأني لم أقرأه بل سمعته منه ونحن متجاوران على مركاة في مجلسٍ عربي. 
يصف الكاتب أحد أصدقائه بأنه صادق ونشمي وخدوم “حتى إنني كنت شاهداً في يوم ما على شهامته عندما كنا ندرس في القاهرة. كان يوم إجازة وذهبنا إلى القناطر الخيرية، كانت هناك بعض الجسور الخشبية فوق ممرات مائية. وبينما كانت مجموعة من الفتيات يعبرن أحد الجسور إذ تحطم الجسر وسقطت البنات في الماء. فقام عقلا بتصرف عفوي بقذف نفسه في الماء وإنقاذ الفتيات” كان شهماً! 
بمثل هذا التلميح المملوح يسرد د. النعيم كثيراً من المواقف والتجارب التي عاشها، في طفولته بعنيزة، وفي دراسته بالقاهرة، وفي وظيفته بالرياض. سيرة “إرشادية” مليئة بالمعاناة والطموح والكفاح والأفراح والأحزان. وينتظم كل هذه الأحداث بمختلف أنواعها خيط قِيَمي متين هو: الوفاء. ولو ذيّل النعيم كتابه هذا ب(فهرست أعلام) لرأيت فيه خَلْقاً متفاوتين من أقارب وعمّال وأصدقاء وفرّاشين ووزراء وخدم وبرلمانيين وجزّارين وأكاديميين وكدّادين. وهذا أمرٌ لا تقدر عليه إلا نفوس النبلاء. 
لا يكرّس د. النعيم سيرته للحديث عن نجاحاته فقط، بل أيضاً عن إخفاقاته وأخطائه. إذ بعد أن شارك في شبابه بالتوقيع على خطاب تحريضي فأُوقف عن العمل لمدة مؤقتة يقدّم نصيحة ثمينة للقراء: “لا تسلّموا عقولكم لأحدٍ ما. لقد فقد الكثير من الناس مستقبلهم بسبب انجرارهم وراء قضايا ليست قضاياهم، وتدخلوا في ما لا يعنيهم، وبدلاً من أن يهتموا بأنفسهم وأسرهم ومستقبلهم ورفع مستوى حياتهم اهتموا بما لا ناقة لهم فيه ولا جمل، وراحوا ضحية مطامع الآخرين”. 
لم تزدني سيرة د. عبدالعزيز النعيم، أو قبل ذلك السيرة اللذيذة أيضاً لشقيقه معالي الأمين عبدالله النعيم “بتوقيعي .. حكايات من بقايا السيرة”، إلا قناعةً بأن أهل عنيزة نسيج وحدهم في الموائمة بين الدين والدنيا، ومزيج متجانس في حياتهم بين الاستمتاع بالرغبات لنفوسهم الشفافة، وأداء الواجبات لدينهم ووطنهم ومجتمعهم. وكنت دوماً أقول، وأكرر الآن، أن نمط “الشخصية العنيزاوية” هو أقرب نموذج لإنسان المدينة الفاضلة التي ننشدها للتعايش بين التيارين الديني والليبرالي في العالم العربي بأسره. 
ليس شرطــاً أن تقــرأوا سيــرة د. النعيم أو أن يكون لكم علاقة شخصية مع إحدى أسر عنيزة كي تصلوا إلى هذه القناعة، ألا تعرفون: حمد القاضي وعبدالله الشبل وعثمان الخويطر وأحمد الصالح “مسافر” وإبراهيم التركي وعبدالرحمن الشبيلي ومحمد الشامخ رحمهما الله، ونماذج عنيزاوية أخرى عديدة من (دعاة السلام). 
عذراً، فقد خرج المقال عن مساره، فأصبح عن سيرة أهالي عنيزة كلهم، وليس عن سيرة عبدالعزيز النعيم وحده! 
سأحاول إعادة المقال في ختامه إلى مساره الأصلي فأخبركم بأن أطرف قصص الكتاب هي عن الحمار الذي لقي حتفه من أجل السامري، وسأترككم تبحثون عن القصة بطريقتكم الخاصة (عرض تشويقي/ تسويقي)! 
قصة الحمار وسامري عنيزة تشترك مع قصة العجل وسامري بني إسرائيل في النزوع إلى المنفعة الذاتية والتغرير بالآخرين … وسلامتكم!

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *