قراءة الرواية متعة،
ولكنها تكون أكثر متعة حين تقرأها وأنت في مسرح أحداثها.
تقارن وصف الراوي للمنزل المهجور أمامك برؤيتك أنت، وتتفحص وجوه المارة لتتأكد إن كانوا هم أبناء أو أحفاد بطل القصة، وتطالع الطقس في مكانك لتتعرف في أي فصول السنة كُتبت الرواية؟
تغادر المكان بعد أن تشعر بأنك قد شاركت في كتابة الرواية، لا قرائتها فقط!
قرأت (الحي اللاتيني) لسهيل إدريس، وأنا جالس في أحد مقاهي أزقة الحي في باريس.
مارست نظرية «موت المؤلف» كي أتمكن من إحياء مؤلِّف آخر لها، ابتُعث إلى باريس للدراسة، تخرّج في السوربون منذ الثمانينات لكنه لم يتخرج من الحي اللاتيني حتى الآن!
وفي حي هارلم بنيويورك قرأت الخاتمة الحزينة لسيرة (مالكوم إكس) لأليكس هاليي. كنت بجوار القاعة التي قُتل فيها وهو يخطب. فكرت بالدخول لأسأل الجلوس: هل وجدوا القاتل، الذي ما زالت المباحث الفيدرالية الأمريكية تبحث عنه حتى اليوم!!
قرأت (الحزام) لأحمد أبو دهمان «مجدداً»، قبل أسبوعين وأنا بجوار قريته آل خلف بمنطقة عسير.
وكدت أبشّر البيوت الملوّنة وأدوات الختان بأن أبو نبيلة قد عاد من هجرته في فرنسا، ولكنه دخل في هجرة جديدة مع ذاته!
وقرأت قريباً من القرية ذاتها أيضاً، سيرة (بارود) لمعدّي آل مذهب. وشممت رائحة «بارود» مقاومة رجال القرية للغزاة العثمانيين في كل زاوية من زوايا القرية .. الآيلة للبقاء!
قد يقول البعض: أليس كثيراً كتابة سيرتين عن قرية واحدة صغيرة؟!
ولو زار المتسائل قرية آل خلف «المُتحفيّة» بأبراجها وممراتها وحقولها وألوانها، لوبّخ بقية أبناء القرية أن كيف لم يكتبوا رواياتهم بعد!
«ليس هناك شبر في القرية إلا وله اسم، جميع الأماكن والجدران والأشجار والطرقات والمنازل والحقول والأبراج لها أسماء… حتى بعض الأشجار العملاقة لأغصانها الكبيرة أسماء». «هكذا بارود، خُلق مقاتلاً. رائحة البارود تسعده أكثر من رائحة العطر». طلبت المدرسة من الطلاب التبرع بما يسمى ريال فلسطين، لم يتبرع إلا قلة بسبب ضيق ذات اليد «أحد الطلاب أخبر المدير أمامنا جميعاً في طابور الصباح بأن والده يقرئه السلام ويخبره أن يأخذه إلى فلسطين بدلاً من الريال». (اقتباسات من رواية بارود).
لم يكن أحمد هو الفنان، ولا معدّي، بل القرية هي الفنان. وأحمد ومعدّي تفنّنوا في كتابة ما أملته عليهم قرية آل خلف.
